Blogger news

Friday, January 27, 2012

أسَاليبُ الدّعوَة - المبحث الثاني - إزالة الشبهات قسم الدعوة والدراسات الاسلامية-الجامعة الاسلامية


الفصل الثاني - أسَاليبُ الدّعوَة - المبحث الثاني - إزالة الشبهات
ماهية الشبهات؟
586-  المقصود بالشبهة هنا: ما يثير الشك والارتياب في صدق الداعي و أحقية ما يدعو إليه، فيمنع ذلك من رؤية الحق والاستجابة له أو تأخير هذه الاستجابة، وغالباً ترتبط الشبهة بعادة موروثة أو مصلحة قائمة أو رياسة دنيوية أو حمية جاهلية، فتؤثر الشبهة بسبب هذه الأمور في النفوس الضعيفة المتصلة بهذه الاشياء، وتتعلق بها وتحسبها حجة وبرهاناً تدفع به الحق وتخاصم الدعاة الى الله تعالى.

مصدر الشبهات
587-  والغالب أن "الملأ" هم الذين يثيرون الشبهات ويزينونها للناس ويشيعونها فيما بينهم ويكررونها على مسامعهم حتى تألفها نفوس البسطاء من عامة الناس، ويأخذون في ترديدها، ثم تصديقها، ثم تبنيها واعتبارها كالحقائق الثابتة وعند ذاك يندفعون الى الدفاع عنها ومخاصمة الحق وأهله من أجلها، والملأ منهم يضحكون ويسخرون فقد حققوا ما يريدون.

لا خلاص من الشبهات ولا تبديل فيها
588-  وليعلم الداعي ان إثارة الشبهات في وجه الدعوة الى الله أمر قديم مضت به سنة الله في العباد وشنشنة قديمة متوارثة بين أهل الباطل فلا يستغرب منها الداعي ولا يضيق بها، وهي في جوهرها لا تتغير ولا تتبدل وإنما الذي يتغير فيها الاسلوب والكيفية، قال تعالى مخاطباً نبيه الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم : {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} سورة فصِّلت الآية: 42. والذي قيل للرسل الكرام هو الباطل الذي كان في حق الناس شبهات وقال تعالى: {ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون} سورة الذاريات الآيات: 52-53 فالاقوام قبل قريش اتهموا الرسل الكرام بالسحر والجنون، وكذلك فعلت قريش لتنفير الناس من الداعي الى الله محمد صلى الله عليه وسلم ومن دعوته.
فإذا فقه الداعي هذه الحقيقة ووعاها جيداً زال عنه العجب والحنق والغضب إذا اتهم بالتهم الباطلة أو أثيرت الشكوك والريب حول دعوته، لأنه ليس أحسن حالاً من رسل الله ولا أفصح بياناً منهم ولا أكثر إخلاصاً منهم ولا أكثر تأييداً من الله تعالى منهم، ومع هذا كله أثار أهل الباطل ما أثاروه من الشبهات حولهم مما قصه الله تعالى علينا في اخبارهم. ثم إن الداعي بفقهه هذه الحقيقة يعلم مدى ما يبلغ الضلال بالانسان بحيث يجعله يخاصم رسل الله الذين يريدون شفاءه من الأمراض وخلاصه من النيران وادخاله في الجنان. وأخيراً فان فقه هذه الامور لازمة لكل مسلم بلا استثناء ليميز الخبيث من الطيب، وحتى لا يتأثر بهذه الشبهات فينساق وراءها ويصير – من حيث لا يشعر – مع الاعداء ضد الدعاة الى الله تعالى.

أنواع الشبهات
589-  والشبهات أنواع، منها ما يتعلق بالداعي، ومنها ما يتعلق بموضوع الدعوة، ومنها ما يتعلق بعموم المدعوين.
فالذي يتعلق بالداعي يتمثل بالطعن في شخصه وسيرته وسلوكه وإلصاق التهم به، ورميه بالسفه والجهالة والضلالة والجنون والافتراء الى غير ذلك مما يكون المقصود منه تنفير الناس منه وعدم الثقة به.
والذي يتعلق بموضوع الدعوة، يتمثل اتهامها بالابتداع والخروج على مألوفات الناس وتقاليدهم ونظامهم الموروث، مما يراد به تنفير الناس من الدعوة إلى الله وصدهم عن سبيله.
والذي يتعلق بالمدعوين يتمثل بإظهار الحرص على مصالحهم وملتهم ودين آبائهم والحفاظ على نعيمهم وحياتهم المطمئنة مما يقصد منه اثارة حماس الناس ضد الدعاة الى الله.

موقف الداعي من الشبهات
590-  والداعي إزاء هذه الشبهات مضطر الى تفنيدها واظهار زيفها وبطلانها، لأنها موانع تمنع من رؤية الحق في حق ضعاف البصر والبصيرة، كما تمنع الإحساس بالداء والحاجة الى الدواء. وتكون الإزالة بالحجة والبرهان، ولكن بصراحة ووضوح وحسن بيان مع أدب بالقول ورفق في الخطاب دون ان تستنفز الداعي أكاذيب المفترين فيحمله ذلك على الانتصار لنفسه والغضب لها والنطق بما لا يجوز. نحن نعلم أن هذا شيء ثقيل على نفس الداعي، ولكنه لا بد منه، ولا سبيل غيره، ويهون إن شاء الله بكمال التجرد الى الله واحتساب ما يلقاه من أذى عند الله. إن مهمة الداعي إزاء الشبهات وازالتها مهمة الطبيب العالم الناصح الشفيق، لا تستنفزه صيحات المرضى وكرههم رؤية الطبيب، بل ولا يمنعه شتمهم له وطعنهم به من الاستمرار على معالجتهم، لأنه يعلم أن هذه الأمور منهم هي بعض أعراض أمراضهم. والطبيب إنما يريد علاجهم لا الانتقام منهم.
والاسلوب الجيد في إزالة الشبهات يعرفه الداعي من قصص الأنبياء وموقفهم من الشبهات التي أثارها المبطلون، وهذا ما نذكر شيئاً عنه في الفقرات التالية:

أمثلة على شبهات أهل الباطل والرد عليها
591-  أولاً: الطعن بالدعاة:
يحرص (الملأ) واتباعهم على ابعاد الناس عن الدعاة الى الله تعالى بالطعن في أشخاصهم وامانتهم وعقولهم، وهذا ما فعله اسلافهم مع رسل الله تعالى فقد اتهموهم بالسحر والجنون والضلال. قال تعالى: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم قوم طاغون} وقال مشركو العرب عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب}. وكان رسل الله يردون على هذا الافتراء ويزيلون ما يتولد عنه من شبهات، بنفيه عن أنفسهم بأسلوب عالٍ رفيع واضح مع شفقة على اولئك المفترين. قال تعالى عن قوم نوح وما رموه به وأسلوب رده عليهم: {قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون. أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون} سورة الاعراف الآيات: 60-63.
ويلاحظ في رد نوح عليه السلام أنه خاطبهم بقوله "يا قوم" فهم قومه ولم يتبرأ من انتسابه ِإليهم، ومن شأن هذا الخطاب أن يساعد على ايقاف لجاجتهم بالباطل ثم بيّن لهم أنه ليس به ضلالة كما يدعون ومعنى ذلك أنهم يكذبون أو يجهلون، فعليهم أن يقلعوا عن كذبهم وجهلهم ثم بيّن لهم حقيقة أمره وهي انه رسول الله ومن شأن رسل الله الصدق فيما يقولون ويبلغون عن الله تعالى. ثم بيّن لهم أنه يريد تبليغهم رسالة الله وينصح لهم ويريد الخير لهم، وانه على علم من أمر الله لا يعلمونه، ومن حق الناصح أن يطاع ويسمع منه، ثم بيّن لهم ان لا داعي لعجبهم أن جاءتهم رسالة الله على لسان رجل منهم يعرفهم ويعرفونه وينذرهم عاقبة ما هم فيه، ويدعوهم الى تقوى ربهم وخالقهم فعسى أن تصيبهم رحمة الله في الدنيا والآخرة.
وبمثل هذا الاسلوب الرفيع المؤثر رد هود عليه السلام على افتراءات وشبهات قومه، قال تعالى: {وإلى عاد أخاهم هودا، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون. قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين. قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين. أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم...} سورة الاعراف الآيات: 65-69.
592-  ثانياً: الافساد في الأرض وطلب الرئاسة على الناس:
ومن شبهاتهم التي يثيرونها حول الداعي انه يريد العلو في الأرض والرياسة على الناس، وتغيير عقائدهم وتقاليدهم الموروثة وان ما جاء به بدعة مضرة ودعوة مفرقة ما سمعوا مثلها من قبل، وانها تؤدي الى الفساد في الأرض فيجب أن يقاوم الداعي ودعوته، ويمنع من الاستمرار فيها، قال تعالى حكاية عن أقوام نوح وعاد وثمود وما قالوه لرسلهم، وما أجابتهم به رسلهم لتفنيد هذه الشبهات الباطلة: {... قالوا إن انتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين. قالت لهم رسلهم ان نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده، وما كان لنا ان نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون} سورة ابراهيم الآيات: 10-11 وقال تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم، وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين} سورة سبأ الآية: 43. "فالملأ" أثاروا في الناس شبهة التقليد والحرص على دين الآباء، وان رسل الله يريدون صرفهم عن ذلك. وقال تعالى عن قوم نوح: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} سورة المؤمنون الآيات: 23-24. فهم يزعمون أن نوحاً عليه السلام يريد اكتساب المنزلة العالية فيهم والرياسة عليهم واظهار الفضل لنفسه بدعوته هذه، لأن أهل الباطل يقيسون أهل الحق بموازينهم المعوجة ويحسبون أن غرض الدعاة الى الله هو غرض أهل الباطل، من طلب العلو في الأرض والتسلط على رقاب الناس كما قال فرعون وملؤه لموسى: {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض}. ثم احتج قوم نوح بأنه بشر مثلهم ولا يستحق – بزعمهم أن يكون مبلغاً عن الله – وان الله تعالى لو أراد تبليغهم بشيء لأنزل عليهم ملائكة. وشبهتهم هذه التي أثاروها مثل شبهة قريش. قال تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون. ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون} سورة الانعام الآيات: 8-9. أي لو أنزل الله ملكاً لجعله بصورة رجل منهم حتى يبلغهم، وعند ذلك يثيرون نفس الشبهة.
وقد قال تعالى في قصة موسى عليه السلام: {وقال الملأ من قوم فرعون اتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك، قال سنقتل ابناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون. قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} سورة الاعراف الآيات: 127-128. "فالملأ" أثاروا حفيظة فرعون على موسى عليه السلام بادعائهم ان موسى يريد الفساد في الأرض، فلا يصح تركه يستمر في دعوته والظاهر أيضاً أنهم أرادوا بما آثاروه من هذه الشبهة الباطلة التبرير للتنكيل بموسى ومن معه من المؤمنين، وليجدوا تأييداً من اتباعهم الضالين. والظاهر أيضاً ان هذا الادعاء من أهل الباطل وما عزم عليه فرعون من تقتيل اتباع موسى قد بلغهم، فقال لهم موسى عليه السلام استعينوا بالله واصبروا، وبيّن لهم أن العاقبة دائماً تكون للمتقين. أما جواب موسى لشبهات فرعون وطعونه في موسى فقد بيّنها الله تعالى في آيات أخرى مثل قوله عن موسى: {وقال موسى يا فرعون إني رسول الله من رب العالمين. حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببيّنة من ربكم....} سورة الاعراف الآيات: 104-105.
وقال تعالى: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مقتدون قال أو لو جئتكم باهدى مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} سورة الزخرف الآيات: 23-24. فأهل الترف "الملأ" يثيرون في الناس شبهة التقليد ويغرونهم على ضرورة التمسك بدين آبائهم وبالتالي ضرورة مقاومة الدعوة الى الله. فيرد عليهم الرسل الكرام برد منطقي سليم {أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} أي أن الحق هو الواجب الاتباع وان كان مخالفاً لما كان عليه آباؤكم، والحق هو ما جئتكم به من ربكم فانظروه وقارنوه مع ما عندكم يتبين لكم صدق ما أقول. فينقطع أهل الباطل عن هذا الرد ويقولون انهم كافرون بالذي جاء به.
593-  ثالثاً: رميهم الدعاة بالاتصال المشبوه وان دعوتهم من خرافات الماضين:
ومن أساليب المبطلين في اثارة الشبهات حول الداعي، زعمهم انه متصل بقوم معينين يساعدونه على التلفيق والقيام بهذه الدعوة، وان دعوته لا صلة لها بالدين ولا بالله، وإنما هي من خرافات الماضين، يريد بها الوصول الى ما يريده بمن يعينه عليها. قال ربنا تعالى عن قريش وما أثاروه من شبهات كاذبة حول دعوة الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام: {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلماً وزوراً، وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً. قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض انه كان غفوراً رحيماً} سورة الفرقان الآيات: 4-6.
594-  رابعاً: الداعي رجل مغمور:
ومن شبهاتهم ان الداعي رجل مغمور لا هو في العير ولا في النفير، وليس هو من المثقفين الكبار ولا من الأغنياء المعروفين ولا من ذوي المناصب والجاه في المجتمع، ويرتبون على ذلك انهم أولى بكل خير وبكل دعوة الى الاصلاح، فلو كان ما يدعو اليه الداعي صلاحاً وحقاً لجاء بهذه الدعوة غيره من أشراف المجتمع. قال تعالى حكاية عن مشركي العرب فيما قالوه لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم {وقالوا لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم. أهم يقسمون رحمة ربك، ونحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون} سورة الزخرف الآيات: 31-32 فالله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته فهو الحكيم العليم. وقال تعالى: {وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون. والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون} سورة سبأ الآية: 38 فأهل الباطل يحتجون بكثرة الأموال والأولاد والانصار على أحقيتهم بكل دعوة الى الاصلاح، وانهم لهذا أهل للفوز من أي عذاب. فبين لهم القرآن العظيم أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويضيقه لحكمة بالغة، وان الاموال والأولاد لا تقرب عند الله وإنما الذي يقرب هو العمل الصالح.
595-  خامساً: اتباع الداعي أناس مغمورون:
ومن شبهاتهم حول الدعوة، ان أتباع الداعي الى الله أناس مغمورون فقراء جهال اصحاب حرف خسيسة، قصار نظر ورأي، وان الدعاة واتباعهم لا يستحقون ارشاد الناس الى الخير ولا قيادتهم الى الهدى، ولهذا كله فإن "الملأ" هم وحدهم المستحقون لقيادة الناس الى الخير، ولا يمكن أن يكونوا اتباعاً للداعي الى الله لأنهم أهل نظر ورأي خلاف أولئك الفقراء الذين اتبعوا الداعي بلا بيّنة وبرهان. قال تعالى عن قوم نوح: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} فيجيبهم نوح عليه السلام بما قصه الله علينا: {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بيّنة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون. ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوماً تجهلون. ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون. ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيراً. الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين} سورة هود الآيات: 28-31 يبين لهم نوح عليه السلام انه على بيّنة من ربه أي على يقين وأمر واضح جلي ونبوة صادقة. وإذا كان ذلك قد خفي عليكم ولم تهتدوا إليه وبادرتم الى التكذيب فكيف نكرهكم على قبول الدعوة. والشأن في قبولها الاقتناع والقبول الاختياري، لأن الإكراه في الدين ممنوع. وأما بشأن أتباع نوح عليه السلام وكونهم من الفقراء والضعفاء فيقول نوح عليه السلام، بأنه رسول الله يدعو الناس الى عبادة الله وحده، لا فرق في دعوته بين شريف ووضيع، ولا بين غني وفقير، فكلهم أهل لأن يدعوهم ومطالب بأن يدعوهم، فمن استجاب منهم له قبله وصار من أتباعه ولا يمكنه أبداً أن يطردهم من مجلسه بحجة أنهم فقراء ضعفاء وان الاشراف يأنفون منهم ومن حضور مجلس يضمهم. كما لا يمكن أن يقول لهم ليس لكم عند الله ثواب على أعمالكم، وقد آمنوا برسالة ربهم فالله أعلم بما في نفوسهم.
والواقع ان أهل الباطل – لا سيما الملأ منهم – يضيقون ذرعاً بالفقراء والضعفاء ويأنفون ان يكونوا مثلهم أتباعاً للدعاة الى الله ولذلك فهم يطلبون إبعادهم من مجلسهم، وكذلك فعل اشراف قريش، طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يطردهم من مجلسه فأنزل الله جل جلاله: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً} سورة الكهف الآية: 28 فلا يجوز اتباع أصحاب الأهواء والغافلة قلوبهم عن ذكر الله فيما يقترحونه ويطلبونه من باطل ومنه إبعاد المؤمنين الصادقين لكونهم من الفقراء والمستضعفين.
596-  هذه بعض شبهات أهل الباطل التي ذكرها الله تعالى في قصص الأنبياء في القرآن العظيم، ويجمعها جامع واحد هو الطعن بالداعي والدعوة وتحريض الدهماء والعامة على مخاصمة الدعوة ليخلوا الجو "للملأ" الكافر الضال فيبقوا على باطلهم وتسلطهم على رقاب الخلق.

ابتعاد الداعي عن الشبهات
597-  وإذا كان أهل الباطل يثيرون الشبهات ويفترون الاكاذيب في وجه الدعوة وضد الداعي، فعلى الداعي ان يبتعد عن مواضع الشبهات حتى لا يتعلق المبطلون بها ويتخذونها تكأة لافترائهم. وقد دل القرآن الكريم على ضرورة الابتعاد عما قد يتشبث به أهل الباطل في إثارتهم الشبهات، ومن هذه الدلالات القرآنية:
أولاً: كان رسل الله جميعاً يقولون لأقوامهم: لا نريد منكم على دعوتنا مالاً، ولا أجراً، لأن أجرنا على الله وحده. قال تعالى عن نوح عليه السلام: {ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله...} وقال تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهوعلى كل شيء شهيد} سورة سبأ الآية: 50 وجه الدلالة بهذه الآية والتي قبلها وغيرها مثلها، ان الرسل الكرام لو طلبوا مالاً أوأجراً على دعوتهم لتعلق أهل الباطل بذلك وجعلوه شبهة يثيرونها ليصدوا الناس عن الدعوة والدعاة فيقولون: إن هؤلاء طلاب مال...
ثانياً: قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون} سورة العنكبوت الآية: 48 وجه الدلالة ان الله تعالى أبعد رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم عن تعلم الكتابة والقراءة دفعاً لما قد يتشبث به المبطلون فيدّعون ان ما جاء به تعلمه من كتب قديمة قرأها واستنسخها، بل يمكن القول انّ الداعي يترك بعض ما فيه فائدة لدفع ضرر الشبهة الباطلة، لأن تعلم القراءة والكتابة فيهما نفع، ولكن دفع ضرر الشبهة الباطلة أكثر نفعاً، فقدم الدفع على هذا النفع.
ثالثاً: قال تعالى: {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون} سورة يونس الآية: 16. وجه الدلالة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغ بالوحي إلا بعد بلوغه الأربعين من عمره المبارك، ليكون ذلك أدفع للشبهة وأدحض لقول أهل الباطل، فقد لبث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المدة الطويلة وخبروه وعرفوا سيرته الطيبة وأخلاقه القويمة وامانته وصدقه فلا يعقل ان يكذب على الله بعد هذا العمر الطويل فيدعي الرسالة وإذا كان الأمر كذلك وإن صدقه ظاهر، فادعاء الكفرة انه ساحر او مجنون او كاذب، ادعاء باطل وشبهة مدحوضة. ويمكن هنا أن نقول ما قلناه من أن دفع الشبهة مقدم على جلب بعض النفع، ذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى أكثر عمره حتى بلغ بالرسالة. ولا شك ان بعثته قبل الاربعين كان يمكن أن يكون فيها مزيد في الدعوة الى الله، ولكن شاءت حكمة الله ألا يجعل بعثته إلا بعد بلوغه الاربعين من عمره المبارك الميمون وإن فات بعض النفع والخير لتأخر بعثته ليدفع الشبهة ويدحض ادعاءات أهل الباطل كما هو واضح من سياق الآية الكريمة. وهكذا يجب على الداعي الفقيه أن يترك بعض ما فيه فائدة ونفع ليدفع شبهات أهل الباطل وما يترتب عليه من ضرر. وسبب ذلك كله أن الشبهة إذا أثيرت بين الناس وشاعت فلا بد أن تترك أثراً في النفوس لا سيما الضعيفة والجاهلة والمتربصة، ويصعب عند ذاك مكافحتها والقضاء عليها إلا بجهد كبير، فكل ما يمنع حدوث الشبهات او اعطاءها ما تستند إليه مطلوب من الداعي ملاحظته واعتباره وأخذه وان فوت عليه بعض الفوائد، لأن القاعدة تقول "درء المفاسد أولى من جلب المنافع" ويدفع أعظم الضررين بتحمل أقلهما.
رابعاً: وقد قال تعالى عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين} فمنع الله تعالى رسوله من تعلم الشعر وانشائه حتى لا يكون ذلك وسيلة بيد أهل الباطل يبنون عليها شبهاتهم الباطلة.
والواقع أن الدعاة الى الله محتاجون أكثر من غيرهم الى الابتعاد عن كثير من المباح الذي قد يتشبث به أهل الباطل ويجعلونه مثاراً لشبهاتهم وللصد عن سبيل الله. ولكن يجب التنبه لما يجب توقيه دفعاً للشبهة، وما يجب مباشرته لأنه من الدعوة وان ظن أنه من الشبهة، وهذا موضع دقيق يكثر فيه الخطأ، ويحتاج الى تفصيل يكفينا منه هنا، أن نقول: يسع الداعي أن يترك ما يخص نفسه وحظوظه المباحة دفعاً هنا للشبهة، وقد يجب أو يندب هذا الترك، ولا يسع الداعي أن يترك ما يخص صميم الدعوة او ما يتصل بها اتصالاً مباشراً، أو يتعلق بنهجها وأسلوبها، لا يجوز مثلاً ترك دعوة الامير والدخول عليه لهذا الغرض بحجة دفع شبهة تقول الناس أنه من بطانة الأمير أو أنه يداهن الامير.
Share this post
  • Share to Facebook
  • Share to Twitter
  • Share to Google+
  • Share to Stumble Upon
  • Share to Evernote
  • Share to Blogger
  • Share to Email
  • Share to Yahoo Messenger
  • More...

0 comments

:) :-) :)) =)) :( :-( :(( :d :-d @-) :p :o :>) (o) [-( :-? (p) :-s (m) 8-) :-t :-b b-( :-# =p~ :-$ (b) (f) x-) (k) (h) (c) cheer

 
© ISLAMIC WORLD
Designed by AL.YEASA ,ISLAMIC UNIVERSITY. EMAIL.aleasa.iuk@gmail.com
https://www.facebook.com/ALEASAIUK .
Posts RSSComments RSS
Back to top