تعريف السبب :
و " هو معنى ظاهر منضبط ، جعله الشارع أمارة للحكم " (19) وهو بهذا المعنى أعم من العلة لعدم أخذ المناسبة في تعريفه ، وقيد بعضهم السبب بما ليس بينه وبين المسبب مناسبة ظاهرة ، فيكون مبايناً للعلة ، وقيل : انهما مترادفان ; يقول خلاف : " وبعض الاصوليين فرقوا بين علة الحكم وسببه بأن الامر الظاهر ـ الذي ربط الحكم به لان من شأن ربطه به تحقيق حكمة الحكم ـ إن كان يعقل وجه كونه مظنة لتحقيق الحكمة يسمى علة الحكم ; وإن كان لا يعقل وجه هذا الارتباط يسمى سبب الحكم ; فشهود شهر رمضان سبب لايجاب صومه لا علة له ، لان العقل لا يدرك وجه كون هذا الشهر دون سواه مظنة لتحقيق الحكمة لايجاب الصوم ; ودلوك الشمس أي زوالها أو غروبها ، سبب لايجاب إقامة الصلاة لا علة له ، لان العقل لا يدرك وجه كون هذا الوقت دون غيره مظنّة لتحقيق الحكمة من إيجاب إقامة الصلاة ; فكل علة سبب وليس كل سبب علة ; وبعض الاصوليين لم يفرقوا بين لفظي العلة والسبب " (20) ، وهذه التفرقة التي ذكرها بين السبب والعلة تنتهي الى التباين بينهما ، فتفريعه بعد ذلك عليها بقوله : " فكل علة سبب ، وليس كل سبب علة " أي بكون النسبة بينهما هي العموم المطلق لا يتضح له وجه .
و" هي المصلحة المقصودة للشارع من تشريع الحكم " (21) أي " ما قصد اليه الشارع من جلب نفع ودفع ضرر " (22) والفارق بينها وبين العلة أن العلة أخذ فيها قيد الانضباط ، والحكمة لم يؤخذ فيها ذلك القيد ، ولذا لم يجعلها الشارع أمارة على حكمه ، ولم يدر الحكم معها وجوداً وعدماً بخلاف العلة والسبب في حدود تعريفيهما السابقين .
أما الشرط فقد أخذ في تعريفه ـ بالاضافة الى ما اعتبر في السبب ـ عدم الافضاء الى المشروط ، أي عرفوه بأنه " الوصف الظاهر المنضبط الذي يتوقف عليه وجود الشيء من غير إفضاء اليه " (23) أي من غير اقتضاء لوجود المشروط عند وجوده ، وان استلزم انعدام المشروط عند عدمه فيكون الفارق بينه وبينهما أن الحكم يدور معهما وجوداً وعدماً بخلاف الشرط ، فان وجوده لا يستلزم وجود المشروط ، فلا يدور مداره وجوداً وإن استلزم انعدامه انعدام ما أخذ فيه ذلك الشرط .
1 ـ تقسيمها باعتبار المناسبة :
وقد قسموا العلة من حيث اعتبار الشارع لمناسبتها وعدمه ونوعية ذلك الاعتبار الى أربعة أقسام :
أ ـ ما أسموه بالمناسب المؤثر ، وهو الذي اعتبر الشارع علة بأتم وجوه الاعتبار ، ودلل صراحة أو إشارة على ذلك و " ما دام الشارع دل على أن هذا المناسب هو علة الحكم فكأنه دل على أن الحكم نشأ عنه وأنه أثر من آثاره ، ولهذا سماه الاصوليون المناسب المؤثر وهو العلة المنصوص عليها " (24) ; يقول خلاف : " ولا خلاف بين العلماء في بناء القياس على المناسب المؤثر ، ويسمون القياس بناء عليه قياساً في معنى الاصل " (25) ، ولكن دعوى عدم الخلاف سينقضها ما يرد عن ابن حزم وغيره من عدم الاخذ به أصلاً ، اللهم إلا ان يريد من عدم الخلاف هو عدم الخلاف بين خصوص الاخذين بالقياس كدليل من الادلة الشرعية ، وهو خلاف ظاهر كلامه .
ب ـ المناسب الملائم : وهو الذي لم يعتبره الشارع بعينه علة لحكمه في المقيس عليه وان كان قد اعتبره علة لحكم من جنس هذا الحكم في نص آخر ، ومثلوا له بالحديث القائل : " لا يزوّج البكر الصغيرة إلا وليّها " (26) ففي رأي أصحاب القياس أن الحديث اشتمل على وصفين كل منهما صالح للتعليل وهو الصغر والبكارة ، وبما أنه علل ولاية الولي على الصغيرة في المال في آية ( وابتلوا اليتامى حتى اذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا اليهم أموالهم ) (27) ، " وما دام الشارع قد اعتبر الصغر علة للولاية على المال ، والولاية على المال والولاية على التزويج نوعان من جنس واحد هو الولاية ، فيكون الشارع قد اعتبر الصغر علّة للولاية على التزويج بوجه من وجوه الاعتبار ، ولهذا يقاس على البكر الصغيرة من في حكمها من جهة نقص العقل وهي المجنونة أو المعتوهة وتقاس عليها أيضاً الثيّب الصغيرة " (28) وبذا أسقطوا دلالة لفظ البكارة من الحديث مع امكان ان تكون جزءاً من التعليل كما هو مقتضى جمعها مع الصغر لو أمكن استفادة التعليل من أمثال هذه التعابير ، وستأتي المناقشة في المسألة كبروياً ، فلا تهم المناقشة في الصغرى .
ج ـ المناسب الملغى : وهو الذي ألغى الشارع اعتباره مع أنه مظنّة تحقيق المصلحة " أي أن بناء الحكم عليه من شأنه ان يحقق مصلحة ، ولكن دل دليل شرعي على إلغاء اعتبار هذا المناسب ومنع بناء الحكم الشرعي عليه " (29) .
ومثلوا له بفتوى من أفتى أحد الملوك بأن كفّارته في إفطار شهر رمضان هو خصوص صيام شهرين متتابعين ، لانه وجد أن المناسب من تشريع الكفارات ردع أصحابها عن التهاون في الافطار العمدي ، ومثل هذا الملك لا تهمه بقية خصال الكفارة لتوفّر عناصرها لديه ، فإلزامه بالصيام أكثر مناسبة لتحقيق مظنّة الحكمة من التشريع .
ولكن هذا الاستنتاج ينافي إطلاق التخيير ، فكأن الشارع المقدس ألغى بإطلاقه التخيير وعدم تقييده بالاخذ بالاشق هذا المناسب ، ولذلك لم يصوّبوا هذا المفتي بفتياه .
د ـ المناسب المرسل : وهو الذي يظهر للمجتهد أن بناء الحكم عليه لابدّ ان يحقق مصلحة ما مع أن الشارع لم يقم على اعتباره أو إلغائه أيما دليل ، وسنطيل الوقوف عند هذا القسم في مبحث المصالح المرسلة ، إن شاء الله تعالى (30) .
أ ـ ما أسموه بالمناسب المؤثر ، وهو الذي اعتبر الشارع علة بأتم وجوه الاعتبار ، ودلل صراحة أو إشارة على ذلك و " ما دام الشارع دل على أن هذا المناسب هو علة الحكم فكأنه دل على أن الحكم نشأ عنه وأنه أثر من آثاره ، ولهذا سماه الاصوليون المناسب المؤثر وهو العلة المنصوص عليها " (24) ; يقول خلاف : " ولا خلاف بين العلماء في بناء القياس على المناسب المؤثر ، ويسمون القياس بناء عليه قياساً في معنى الاصل " (25) ، ولكن دعوى عدم الخلاف سينقضها ما يرد عن ابن حزم وغيره من عدم الاخذ به أصلاً ، اللهم إلا ان يريد من عدم الخلاف هو عدم الخلاف بين خصوص الاخذين بالقياس كدليل من الادلة الشرعية ، وهو خلاف ظاهر كلامه .
ب ـ المناسب الملائم : وهو الذي لم يعتبره الشارع بعينه علة لحكمه في المقيس عليه وان كان قد اعتبره علة لحكم من جنس هذا الحكم في نص آخر ، ومثلوا له بالحديث القائل : " لا يزوّج البكر الصغيرة إلا وليّها " (26) ففي رأي أصحاب القياس أن الحديث اشتمل على وصفين كل منهما صالح للتعليل وهو الصغر والبكارة ، وبما أنه علل ولاية الولي على الصغيرة في المال في آية ( وابتلوا اليتامى حتى اذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا اليهم أموالهم ) (27) ، " وما دام الشارع قد اعتبر الصغر علة للولاية على المال ، والولاية على المال والولاية على التزويج نوعان من جنس واحد هو الولاية ، فيكون الشارع قد اعتبر الصغر علّة للولاية على التزويج بوجه من وجوه الاعتبار ، ولهذا يقاس على البكر الصغيرة من في حكمها من جهة نقص العقل وهي المجنونة أو المعتوهة وتقاس عليها أيضاً الثيّب الصغيرة " (28) وبذا أسقطوا دلالة لفظ البكارة من الحديث مع امكان ان تكون جزءاً من التعليل كما هو مقتضى جمعها مع الصغر لو أمكن استفادة التعليل من أمثال هذه التعابير ، وستأتي المناقشة في المسألة كبروياً ، فلا تهم المناقشة في الصغرى .
ج ـ المناسب الملغى : وهو الذي ألغى الشارع اعتباره مع أنه مظنّة تحقيق المصلحة " أي أن بناء الحكم عليه من شأنه ان يحقق مصلحة ، ولكن دل دليل شرعي على إلغاء اعتبار هذا المناسب ومنع بناء الحكم الشرعي عليه " (29) .
ومثلوا له بفتوى من أفتى أحد الملوك بأن كفّارته في إفطار شهر رمضان هو خصوص صيام شهرين متتابعين ، لانه وجد أن المناسب من تشريع الكفارات ردع أصحابها عن التهاون في الافطار العمدي ، ومثل هذا الملك لا تهمه بقية خصال الكفارة لتوفّر عناصرها لديه ، فإلزامه بالصيام أكثر مناسبة لتحقيق مظنّة الحكمة من التشريع .
ولكن هذا الاستنتاج ينافي إطلاق التخيير ، فكأن الشارع المقدس ألغى بإطلاقه التخيير وعدم تقييده بالاخذ بالاشق هذا المناسب ، ولذلك لم يصوّبوا هذا المفتي بفتياه .
د ـ المناسب المرسل : وهو الذي يظهر للمجتهد أن بناء الحكم عليه لابدّ ان يحقق مصلحة ما مع أن الشارع لم يقم على اعتباره أو إلغائه أيما دليل ، وسنطيل الوقوف عند هذا القسم في مبحث المصالح المرسلة ، إن شاء الله تعالى (30) .
ذكروا للاجتهاد في العلة أقساماً ثلاثة :
أ ـ تحقيق المناط :
وقد قسّمه المقدسي الى نوعين :
أولاهما : " أن تكون القاعدة الكلية متفقاً عليها أو منصوصاً عليها ، ويجتهد في تحقيقها في الفرع " (31) ، ومثل له بالاجتهاد في القبلة وهو معلوم بالنص ، والاجتهاد إنما يكون في تشخيص القبلة من بين الجهات ، وكذلك تعيين الامام ، والعدل ، ومقدار الكفايات في النفقات ونحوها .
ثانيهما : " ما عرف علة الحكم فيه بنص أو إجماع ، فيبين المجتهد وجودها في الفرع باجتهاده ، مثل قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الهرة ( انها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات ) (32) جعل الطواف علة ، فيبين المجتهد باجتهاده وجود الطواف في الحشرات من الفأرة وغيرها ليلحقها بالهر في الطهارة ، فهذا قياس جلي قد أقرّ به جماعة ممن ينكر القياس " (33) .
والاول من النوعين موضع اتفاق المسلمين على الاخذ به ، إلا أن اعتباره من قبيل تحقيق المناط مما لا يعرف له وجه ، لانه لا يزيد على كونه اجتهاداً في مقام تشخيص صغريات موضوع الحكم الكبروي ، وليس هو اجتهاداً في تشخيص علة الاصل في الفرع لينتظم في هذا القسم ، فعده قسماً من تحقيق المناط لا يبدو له وجه ، ولقد استدرك بعد ذلك فنفى هذا القسم من تحقيق المناط عن القياس لان " هذا متفق عليه ، والقياس مختلف فيه " (34) والانسب تعليله بعدم انطباق مفهوم القياس عليه ، لان الاتفاق والاختلاف لا يغيّر من واقع الاشياء اذا كان مفهومها متسعاً له ، ثم علل سر الاتفاق عليه ـ فيما يبدو ـ بأن " هذا من ضرورة كل شريعة ، لان التنصيص على عدالة كل شخص وقدر كفاية الاشخاص لا يوجد " (35) ; وكأن مراده أن جميع القضايا الشرعية إنما وردت على سبيل القضايا الحقيقية لا القضايا الخارجية ، فلا تتكفل تشخيص وتعيين موضوعاتها خارجاً ، وإنما يترك تشخيص الموضوعات الى المكلفين أنفسهم بالطرق والقواعد المجعولة من قبل الشارع لذلك ; ومن هنا قيل : ان القضية لا تعين موضوعها خارجاً اذا كانت قضية حقيقية ، فالدليل الذي يأمرك بالصلاة خلف العادل لا يعين لك أن فلاناً مثلاً عادل أو غير عادل وهذا من الواضحات .
ب ـ تنقيح المناط :
" وهو ان يضيف الشارع الحكم الى سببه فتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الاضافة فيجب حذفها عن الاعتبار ليتسع الحكم " (36) ، ومثلوا له بقصة الاعرابي الذي قال للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : " هلكت يا رسول الله ! فقال له : ما صنعت ؟ قال : وقعت على أهلي في نهار رمضان ; قال : اعتق رقبة " (37) حيث استفادوا عدم الخصوصية في كونه أعرابياً ، فألحقوا به جميع المكلفين ، ولا في كون المرأة التي وقع عليها أهلا له فألحقوا به الزنى ، ولا خصوصية لخصوص شهر رمضان الذي وقع فيه على أهله فألحقوا به جميع أشهر الصيام ، الى ما هنالك من الخصوصيات التي يعلم بعدم مدخليتها .
وهذه التعميمات وأمثالها مما تقتضيها مناسبة الحكم والموضوع ، وهناك تعميمات مظنونة وقعت موقع الخلاف ، كالقول بأن النكاح لا خصوصية له ، فلا بد ان يعمم الى كل مفطر ، وهي مبنية على حجية القياس المظنون .
ج ـ تخريج المناط :
" وهو ان ينص الشارع على حكم في محل دون ان يتعرض لمناط أصلاً " (38) كتحريمه الربا في البر فيعمم الى كل مكيل من طريق استنباط علته بدعوى استفادة أن العلة في التحريم هو كونه مكيلاً .
3 ـ تقسيم مسالك العلة :
ويراد بمسالك العلة الطرق المفضية اليها والكاشفة عنها ، وقد قسمها الغزالي الى قسمين : صحيحة وفاسدة ، ونظراً لارتباط أهم مباحث القياس وهو حجيته بها ، فان من الحق ان نطيل نسبياً في التحدث عنها تبعاً لمن سبقنا من الباحثين ، وإن كنا سنخالف الكثير منهم في نهج الحديث ابعاداً لما وقعوا فيه من تداخل بعض أقسامها في بعض ، وقد آثرنا نهج الغزالي في تقسيمها وان لم نقتفه في جملة ما جاء به من خصوصيات احتفاظاً بجدة ما جدَّ عليه من تنظيم .
لقد قسم الغزالي مسالك العلة الى قسمين : صحيحة وفاسدة .
أ ـ تحقيق المناط :
وقد قسّمه المقدسي الى نوعين :
أولاهما : " أن تكون القاعدة الكلية متفقاً عليها أو منصوصاً عليها ، ويجتهد في تحقيقها في الفرع " (31) ، ومثل له بالاجتهاد في القبلة وهو معلوم بالنص ، والاجتهاد إنما يكون في تشخيص القبلة من بين الجهات ، وكذلك تعيين الامام ، والعدل ، ومقدار الكفايات في النفقات ونحوها .
ثانيهما : " ما عرف علة الحكم فيه بنص أو إجماع ، فيبين المجتهد وجودها في الفرع باجتهاده ، مثل قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في الهرة ( انها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات ) (32) جعل الطواف علة ، فيبين المجتهد باجتهاده وجود الطواف في الحشرات من الفأرة وغيرها ليلحقها بالهر في الطهارة ، فهذا قياس جلي قد أقرّ به جماعة ممن ينكر القياس " (33) .
والاول من النوعين موضع اتفاق المسلمين على الاخذ به ، إلا أن اعتباره من قبيل تحقيق المناط مما لا يعرف له وجه ، لانه لا يزيد على كونه اجتهاداً في مقام تشخيص صغريات موضوع الحكم الكبروي ، وليس هو اجتهاداً في تشخيص علة الاصل في الفرع لينتظم في هذا القسم ، فعده قسماً من تحقيق المناط لا يبدو له وجه ، ولقد استدرك بعد ذلك فنفى هذا القسم من تحقيق المناط عن القياس لان " هذا متفق عليه ، والقياس مختلف فيه " (34) والانسب تعليله بعدم انطباق مفهوم القياس عليه ، لان الاتفاق والاختلاف لا يغيّر من واقع الاشياء اذا كان مفهومها متسعاً له ، ثم علل سر الاتفاق عليه ـ فيما يبدو ـ بأن " هذا من ضرورة كل شريعة ، لان التنصيص على عدالة كل شخص وقدر كفاية الاشخاص لا يوجد " (35) ; وكأن مراده أن جميع القضايا الشرعية إنما وردت على سبيل القضايا الحقيقية لا القضايا الخارجية ، فلا تتكفل تشخيص وتعيين موضوعاتها خارجاً ، وإنما يترك تشخيص الموضوعات الى المكلفين أنفسهم بالطرق والقواعد المجعولة من قبل الشارع لذلك ; ومن هنا قيل : ان القضية لا تعين موضوعها خارجاً اذا كانت قضية حقيقية ، فالدليل الذي يأمرك بالصلاة خلف العادل لا يعين لك أن فلاناً مثلاً عادل أو غير عادل وهذا من الواضحات .
ب ـ تنقيح المناط :
" وهو ان يضيف الشارع الحكم الى سببه فتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الاضافة فيجب حذفها عن الاعتبار ليتسع الحكم " (36) ، ومثلوا له بقصة الاعرابي الذي قال للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : " هلكت يا رسول الله ! فقال له : ما صنعت ؟ قال : وقعت على أهلي في نهار رمضان ; قال : اعتق رقبة " (37) حيث استفادوا عدم الخصوصية في كونه أعرابياً ، فألحقوا به جميع المكلفين ، ولا في كون المرأة التي وقع عليها أهلا له فألحقوا به الزنى ، ولا خصوصية لخصوص شهر رمضان الذي وقع فيه على أهله فألحقوا به جميع أشهر الصيام ، الى ما هنالك من الخصوصيات التي يعلم بعدم مدخليتها .
وهذه التعميمات وأمثالها مما تقتضيها مناسبة الحكم والموضوع ، وهناك تعميمات مظنونة وقعت موقع الخلاف ، كالقول بأن النكاح لا خصوصية له ، فلا بد ان يعمم الى كل مفطر ، وهي مبنية على حجية القياس المظنون .
ج ـ تخريج المناط :
" وهو ان ينص الشارع على حكم في محل دون ان يتعرض لمناط أصلاً " (38) كتحريمه الربا في البر فيعمم الى كل مكيل من طريق استنباط علته بدعوى استفادة أن العلة في التحريم هو كونه مكيلاً .
3 ـ تقسيم مسالك العلة :
ويراد بمسالك العلة الطرق المفضية اليها والكاشفة عنها ، وقد قسمها الغزالي الى قسمين : صحيحة وفاسدة ، ونظراً لارتباط أهم مباحث القياس وهو حجيته بها ، فان من الحق ان نطيل نسبياً في التحدث عنها تبعاً لمن سبقنا من الباحثين ، وإن كنا سنخالف الكثير منهم في نهج الحديث ابعاداً لما وقعوا فيه من تداخل بعض أقسامها في بعض ، وقد آثرنا نهج الغزالي في تقسيمها وان لم نقتفه في جملة ما جاء به من خصوصيات احتفاظاً بجدة ما جدَّ عليه من تنظيم .
لقد قسم الغزالي مسالك العلة الى قسمين : صحيحة وفاسدة .
وقسم المسالك الصحيحة الى ثلاثة أقسام (39) :
أولاها : ما كانت العلة مدلولة للادلة اللفظية ، وينتظم في هذا القسم منها :
أ ـ ما كان دالاًّ عليها بالدلالة المطابقية أي دلالة اللفظ على تمام معناها كدلالة لفظ العلة ومشتقاتها ، ودلالة حروف التعليل كاللام والفاء وما شاكلهما مما نص اللغويون أو النحاة على وضعها لهذا المعنى أو استعمالها فيه مع توفر القرائن المعينة في المشترك منها ، أو الصارفة فيما استعمل فيها مجازاً على ان يفهم ـ نصاً أو إطلاقاً ـ استقلالها في العلية ، وعدم قصرها على موضوعها .
ب ـ ما كانت مدلولة بالدلالة الالتزامية ، وهي التي ينتقل الذهن فيها الى المعنى لمجرد سماعه اللفظ أي ما كان اللازم فيها بيّناً بالمعنى الاخص ويدخل ضمن هذا القسم :
1 ـ مفهوم الموافقة أو قياس الاولوية : وهو ما كان اقتضاء الجامع فيه للحكم بالفرع أقوى وأوكد منه في الاصل (40) ، ومثاله ما ورد في الكتاب من النهي عن التأفف من الوالدين ( ولا تقل لهما أفّ ) (41) القاضي بتحريم ضربهما ، وتوجيه الاهانة اليهما .
2 ـ مفهوم المخالفة : كمفاهيم الشرط والحصر والوصف والغاية بناء على ثبوتها المستلزم لثبوت الحجية لها ، شريطة ان يفهم أن العلة فيها مستقلة ومتعدية ليستفاد الاطراد منها ـ وهو الذي يهمنا في حديثنا هذا ـ وان كان استفادة نفي الحكم منها لا يحتاج الى اكثر من إثبات انحصارها في العلية ، وهو معنى ظهورها في مفهوم المخالفة .
3 ـ دلالة الاقتضاء : " وهي الدلالة المقصودة للمتكلم التي يتوقف صدق الكلام أو صحته عقلاً أو شرعاً أو لغة عليها " (42) اذا كان المحذوف هو العلة ، واستكملت شرائطها بالقرائن ، ومثاله ان يسأل سائل ما عن علة جواز الصلاة خلف العالم العادل أهي العدالة ؟ فيجيبه الشارع بلى ، وعندها يستفاد تعميم الحكم الى كل عادل من هذا الجواب أخذاً بعموم العلة .
4 ـ دلالة الايماء والتنبيه : وهي الدلالة المقصودة للمتكلم أيضاً ، إلا أن الكلام لا يتوقف صدقه أو صحته عليها ، وانما يقطع أو يستبعد عدم إرادتها ، ومثالها قول الشارع مثلاً : طهر فمك لمن قال : شربت ماء متنجساً . مما يستكشف منه ان العلة في التطهير هو استعمال المتنجس وأنه منجس ولا خصوصية للفم .
ج ـ ان لا تكون مدلولة بالدلالة البينة بالمعنى الاخص ، بل بالدلالة غير البينة ، أو
البينة بالمعنى الاعم ، كأن تستفاد العلة المنحصرة المستقلة من الجمع بين دليلين أو أكثر ، ويسمى هذا النوع بدلالة الاشارة وتسميتها دلالة لا يخلو من مسامحة .
ولقد وقع الخلط والتداخل بين هذه الاقسام على ألسنة أكثر الباحثين ولا يهم الدخول في تفصيل ما دخلوا فيه ، لعدم ترتب ثمرات على ذلك .
ثانيها : الاجماع ، ولا يقع ذلك إلا اذا قام على معقد له معلل بعلة خاصة فهم منها الاطراد والاستقلال بالعلية ، أو قام الاجماع على نفس العلة المطردة المستقلة . يقول في القوانين المحكمة : " التعدي من قوله(عليه السلام) : ( اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه ) (43) الى وجوب غسل البدن والازالة عن المسجد والمأكول والمشروب وغيرها ، إنما هو لاجل استفادة ان علة وجوب الغسل عن الثوب هي النجاسة ، ودليله الاجماع فيجب الاحتراز عنه في كل ما يشترط فيه الطهارة " (44) .
ثالثها : إثباتها من طريق الاستنباط ، وهو أنواع أهمها :
أ ـ طريقة السبر والتقسيم ، ويراد بالسبر الاختبار ، وبالتقسيم استعراض الاوصاف التي تصلح ان تكون علة في الاصل وترديد العلة بينها .
" وخلاصة هذا المسلك ان المجتهد عليه ان يبحث في الاوصاف الموجودة في الاصل ، ويستبعد ما لا يصح ان يكون علة منها ، ويستبقي ما هو علة حسب رجحان ظنه ، وهاديه في الاستبعاد والاستبقاء تحقق شروط العلة بحيث لا يستبقي إلا وصفاً ظاهراً منضبطاً متعدياً مناسباً معتبراً بنوع من أنواع الاعتبار " (45) .
وفي هذا المسلك تتفاوت عقول المجتهدين في مجالات الاستنباط وتختلف اختلافاً كبيراً ، وعلى سبيل المثال نرى ان " الحنفية رأوا المناسب في تعليل التحريم في الاموال الربوية القدر مع اتحاد الجنس ، والشافعية رأوه الطعم مع اتحاد الجنس ، والمالكية رأوه القوت والادخار مع اتحاد الجنس (46) .
ب ـ إثبات العلة بابداء مناسبتها للحكم ، كأن يقال ـ مثلاً ـ ان هذا الوصف في الاصل هو الذي يناسب ان يكون مظنة لتحقيق الحكمة من هذا الحكم وعليه فيجب ان يكون هو العلة ، وقد مضى منا الحديث في أقسام المناسب وتعيين ما يدخل منها في موضع النزاع من غيره فلا نعيده هنا .
هذا كله في المسالك التي اعتبرها الغزالي صحيحة ، أما المسالك الفاسدة فقد حصرها في ثلاثة (47) :
1 ـ أن يستدل على علة الاصل بسلامتها عن علة تعارضها وتقتضي نقيض حكمها بدعوى أن دليل صحتها هو انتفاء المفسد ، وقد رد هذا الدليل بإمكان قلبه فيقال عنه ان دليل فساده هو عدم الدليل على صحته ، إذ لا يكفي للصحة انتفاء المفسد ، بل لا بد من قيام الدليل على الصحة .
2 ـ ان يستدل على علية أحد الاوصاف باطراده مع الحكم ، ولكن مجرد الاطراد لا يكفي لاثبات عليته له لاحتمال ان يكون الوصف من لوازمها غير المنفكة عنها ، فقد يلزم الخمر ـ على سبيل المثال ـ لون أو طعم يقترن به التحريم ، مع أن العلة مثلاً هي الشدة .
3 ـ ان يستدل على العلية بالاطراد والانعكاس معاً ، وهذا كسابقه لا يدل على أكثر من الاقتران بالحكم وهو اعم من كونه علة له أو ملازماً مساوياً لها يدور معها وجوداً وعدماً ، وزيادة العكس على الاطراد لا يدل على أكثر من هذا المعنى .
واعتبار هذه المسالك من المسالك الفاسدة صحيح جداً اذا أريد اعتبارها طرقاً لاثبات العلة على نحو الجزم واليقين .
أما اذا اكتفي منها بإفادة الظن فإنكار ذلك لا يخلو من مصادرة ، وهذه التشكيكات العقلية لا ترفع أكثر من اليقين ، ولا أقل من تحول النزاع فيها الى نزاع صغروي لا جدوى من تحريره .
والذي ينبغي ان يقال إن هذه المسالك كغيرها مما لا يفيد علماً من المسالك السابقة وبخاصة الاخير منها ، فإن قام عليها دليل بالخصوص كانت حجة ، وإلا فلا يمكن اعتمادها في ذلك .
أولاها : ما كانت العلة مدلولة للادلة اللفظية ، وينتظم في هذا القسم منها :
أ ـ ما كان دالاًّ عليها بالدلالة المطابقية أي دلالة اللفظ على تمام معناها كدلالة لفظ العلة ومشتقاتها ، ودلالة حروف التعليل كاللام والفاء وما شاكلهما مما نص اللغويون أو النحاة على وضعها لهذا المعنى أو استعمالها فيه مع توفر القرائن المعينة في المشترك منها ، أو الصارفة فيما استعمل فيها مجازاً على ان يفهم ـ نصاً أو إطلاقاً ـ استقلالها في العلية ، وعدم قصرها على موضوعها .
ب ـ ما كانت مدلولة بالدلالة الالتزامية ، وهي التي ينتقل الذهن فيها الى المعنى لمجرد سماعه اللفظ أي ما كان اللازم فيها بيّناً بالمعنى الاخص ويدخل ضمن هذا القسم :
1 ـ مفهوم الموافقة أو قياس الاولوية : وهو ما كان اقتضاء الجامع فيه للحكم بالفرع أقوى وأوكد منه في الاصل (40) ، ومثاله ما ورد في الكتاب من النهي عن التأفف من الوالدين ( ولا تقل لهما أفّ ) (41) القاضي بتحريم ضربهما ، وتوجيه الاهانة اليهما .
2 ـ مفهوم المخالفة : كمفاهيم الشرط والحصر والوصف والغاية بناء على ثبوتها المستلزم لثبوت الحجية لها ، شريطة ان يفهم أن العلة فيها مستقلة ومتعدية ليستفاد الاطراد منها ـ وهو الذي يهمنا في حديثنا هذا ـ وان كان استفادة نفي الحكم منها لا يحتاج الى اكثر من إثبات انحصارها في العلية ، وهو معنى ظهورها في مفهوم المخالفة .
3 ـ دلالة الاقتضاء : " وهي الدلالة المقصودة للمتكلم التي يتوقف صدق الكلام أو صحته عقلاً أو شرعاً أو لغة عليها " (42) اذا كان المحذوف هو العلة ، واستكملت شرائطها بالقرائن ، ومثاله ان يسأل سائل ما عن علة جواز الصلاة خلف العالم العادل أهي العدالة ؟ فيجيبه الشارع بلى ، وعندها يستفاد تعميم الحكم الى كل عادل من هذا الجواب أخذاً بعموم العلة .
4 ـ دلالة الايماء والتنبيه : وهي الدلالة المقصودة للمتكلم أيضاً ، إلا أن الكلام لا يتوقف صدقه أو صحته عليها ، وانما يقطع أو يستبعد عدم إرادتها ، ومثالها قول الشارع مثلاً : طهر فمك لمن قال : شربت ماء متنجساً . مما يستكشف منه ان العلة في التطهير هو استعمال المتنجس وأنه منجس ولا خصوصية للفم .
ج ـ ان لا تكون مدلولة بالدلالة البينة بالمعنى الاخص ، بل بالدلالة غير البينة ، أو
البينة بالمعنى الاعم ، كأن تستفاد العلة المنحصرة المستقلة من الجمع بين دليلين أو أكثر ، ويسمى هذا النوع بدلالة الاشارة وتسميتها دلالة لا يخلو من مسامحة .
ولقد وقع الخلط والتداخل بين هذه الاقسام على ألسنة أكثر الباحثين ولا يهم الدخول في تفصيل ما دخلوا فيه ، لعدم ترتب ثمرات على ذلك .
ثانيها : الاجماع ، ولا يقع ذلك إلا اذا قام على معقد له معلل بعلة خاصة فهم منها الاطراد والاستقلال بالعلية ، أو قام الاجماع على نفس العلة المطردة المستقلة . يقول في القوانين المحكمة : " التعدي من قوله(عليه السلام) : ( اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه ) (43) الى وجوب غسل البدن والازالة عن المسجد والمأكول والمشروب وغيرها ، إنما هو لاجل استفادة ان علة وجوب الغسل عن الثوب هي النجاسة ، ودليله الاجماع فيجب الاحتراز عنه في كل ما يشترط فيه الطهارة " (44) .
ثالثها : إثباتها من طريق الاستنباط ، وهو أنواع أهمها :
أ ـ طريقة السبر والتقسيم ، ويراد بالسبر الاختبار ، وبالتقسيم استعراض الاوصاف التي تصلح ان تكون علة في الاصل وترديد العلة بينها .
" وخلاصة هذا المسلك ان المجتهد عليه ان يبحث في الاوصاف الموجودة في الاصل ، ويستبعد ما لا يصح ان يكون علة منها ، ويستبقي ما هو علة حسب رجحان ظنه ، وهاديه في الاستبعاد والاستبقاء تحقق شروط العلة بحيث لا يستبقي إلا وصفاً ظاهراً منضبطاً متعدياً مناسباً معتبراً بنوع من أنواع الاعتبار " (45) .
وفي هذا المسلك تتفاوت عقول المجتهدين في مجالات الاستنباط وتختلف اختلافاً كبيراً ، وعلى سبيل المثال نرى ان " الحنفية رأوا المناسب في تعليل التحريم في الاموال الربوية القدر مع اتحاد الجنس ، والشافعية رأوه الطعم مع اتحاد الجنس ، والمالكية رأوه القوت والادخار مع اتحاد الجنس (46) .
ب ـ إثبات العلة بابداء مناسبتها للحكم ، كأن يقال ـ مثلاً ـ ان هذا الوصف في الاصل هو الذي يناسب ان يكون مظنة لتحقيق الحكمة من هذا الحكم وعليه فيجب ان يكون هو العلة ، وقد مضى منا الحديث في أقسام المناسب وتعيين ما يدخل منها في موضع النزاع من غيره فلا نعيده هنا .
هذا كله في المسالك التي اعتبرها الغزالي صحيحة ، أما المسالك الفاسدة فقد حصرها في ثلاثة (47) :
1 ـ أن يستدل على علة الاصل بسلامتها عن علة تعارضها وتقتضي نقيض حكمها بدعوى أن دليل صحتها هو انتفاء المفسد ، وقد رد هذا الدليل بإمكان قلبه فيقال عنه ان دليل فساده هو عدم الدليل على صحته ، إذ لا يكفي للصحة انتفاء المفسد ، بل لا بد من قيام الدليل على الصحة .
2 ـ ان يستدل على علية أحد الاوصاف باطراده مع الحكم ، ولكن مجرد الاطراد لا يكفي لاثبات عليته له لاحتمال ان يكون الوصف من لوازمها غير المنفكة عنها ، فقد يلزم الخمر ـ على سبيل المثال ـ لون أو طعم يقترن به التحريم ، مع أن العلة مثلاً هي الشدة .
3 ـ ان يستدل على العلية بالاطراد والانعكاس معاً ، وهذا كسابقه لا يدل على أكثر من الاقتران بالحكم وهو اعم من كونه علة له أو ملازماً مساوياً لها يدور معها وجوداً وعدماً ، وزيادة العكس على الاطراد لا يدل على أكثر من هذا المعنى .
واعتبار هذه المسالك من المسالك الفاسدة صحيح جداً اذا أريد اعتبارها طرقاً لاثبات العلة على نحو الجزم واليقين .
أما اذا اكتفي منها بإفادة الظن فإنكار ذلك لا يخلو من مصادرة ، وهذه التشكيكات العقلية لا ترفع أكثر من اليقين ، ولا أقل من تحول النزاع فيها الى نزاع صغروي لا جدوى من تحريره .
والذي ينبغي ان يقال إن هذه المسالك كغيرها مما لا يفيد علماً من المسالك السابقة وبخاصة الاخير منها ، فإن قام عليها دليل بالخصوص كانت حجة ، وإلا فلا يمكن اعتمادها في ذلك .
والحديث حول حجية القياس متشعب جداً بتشعب أقوالهم وتباينها ، وطبيعة البحث تدعونا الى ان نقف منها موقفاً لا يخلو من صبر وأناة نظراً لما يعطيه البحث من ثمار في مجالات استنباط الاحكام نفياً وإيجاباً ، وعمدة أحاديث القياس هو هذا الحديث .
ويكفي ان يطلع الانسان على أية موسوعة أصولية ليعرف مدى التشعب والتباين في الاراء .
فالغزالي وغيره ، نسبوا الى الشيعة ـ بقول مطلق ـ وبعض المعتزلة القول باستحالة التعبد بالقياس عقلاً (48) ، كما نسب المقدسي ذلك الى أهل الظاهر والنظام وقال : " وقد أومأ إليه أحمد(رحمه الله) ، فقال : يجتنب المتكلم في الفقه هذين الاصلين : المجمل والقياس ، وتأوله القاضي على قياس يخالف به نصّاً " (49) .
" وقال قوم في مقابلتهم يجب التعبد به عقلاً " (50) .
وذهب آخرون الى أنه " لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب ، ولكنه في مظنّة الجواز ، ثم اختلفوا في وقوعه فأنكر أهل الظاهر وقوعه بل ادعوا حظر الشرع له " (51) .
ولكن بعض الشافعية أوجبوا التعبد به شرعاً ، وإن لم يوجبوه من وجهة عقلية (52) .
والذي عليه أئمة المذاهب السنية وغيرهم من أعلام السنة (53) ، هو الجواز العقلي ووقوع التعبد الشرعي به كما هو فحوى أدلتهم التي سنعرضها ، وإن كان في استدلال بعضهم ما يوجبه عقلاً لو تمت أدلته العقلية .
ومن هذا العرض الموجز ، تدركون مدى اختلاف العلماء في نسبة بعض الاراء الى أصحابها ; فالمقدسي يعتبر أهل الظاهر من محيلي القياس عقلاً ، بينما يعتبرهم الغزالي من مجوزيه عقلاً ومانعيه شرعاً .
وربما كان سرّ اختلاف النسبة ، هو وقوف كل منهما على ما نسب اليهم من أدلة يشعر بعضها بالاحالة العقلية وبعضها بالحظر الشرعي ، فاستند الى ما وقف عليه ، وهذه الادلة ـ مجتمعة ـ معروضة في كتاب ابن حزم ( ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل ) ومقدمة كتابه ( المحلّى ) .
والشيء الذي لم أجده من هذه النسب ـ في حدود تتبعي ـ هو نسبة الاحالة العقلية ـ بقول مطلق ـ الى الشيعة ، وربما وجدوه في بعض كتب الاصول الشيعية كرأي لصاحب الكتاب ، فاعتبروه رأي مذهب بأجمعه .
ومن الاخطاء التي تكررت على ألسنة كثير من الباحثين هو نسبة رأي الى مجموع الشيعة لمجرد عثورهم على ذهاب مجتهد من مجتهديهم اليه ، ناسين أن الشيعة قد فتحوا على أنفسهم أبواب الاجتهاد فأصبح كل مجتهد له رأيه الخاص ولا يتحمل الاخرون تبعته .
نعم ، ما كان من ضروريات مذهبهم فإن الجميع يؤمنون به .
والشيء الذي لا أشكّ فيه ، هو ان المنع عن العمل بقسم من أقسام القياس يعد من ضروريات مذهبهم لتواتر أخبار أهل البيت في الردع عن العمل به (54) ، لا ان العقل هو الذي يمنع التعبّد به ويحيله ، ولذلك احتاجوا الى بذل جهد في توجيه ترك العمل به مع افادته للظن على تقدير تمامية مقدمات دليل الانسداد المقتضية للعمل
بمطلق الظن ، وسيأتي انها غير تامة ; فلو كانوا يؤمنون بالاحالة العقلية في العمل به لما احتاجوا الى ذلك التوجيه (55).
وعلى أي فإن حجية القياس وعدمها تعود إلى ثلاثة أقوال رئيسة :
1 ـ قول بالاحالة العقلية .
2 ـ قول بالوجوب العقلي .
3 ـ قول بالامكان ، وهو ذو شقين إمكان مع القول بالوقوع ، والقول بعدمه ، فلا بد من التماس هذه الاقوال واستعراض أدلتها ، وبيان أوجه المفارقة فيها لو كانت .
ويكفي ان يطلع الانسان على أية موسوعة أصولية ليعرف مدى التشعب والتباين في الاراء .
فالغزالي وغيره ، نسبوا الى الشيعة ـ بقول مطلق ـ وبعض المعتزلة القول باستحالة التعبد بالقياس عقلاً (48) ، كما نسب المقدسي ذلك الى أهل الظاهر والنظام وقال : " وقد أومأ إليه أحمد(رحمه الله) ، فقال : يجتنب المتكلم في الفقه هذين الاصلين : المجمل والقياس ، وتأوله القاضي على قياس يخالف به نصّاً " (49) .
" وقال قوم في مقابلتهم يجب التعبد به عقلاً " (50) .
وذهب آخرون الى أنه " لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب ، ولكنه في مظنّة الجواز ، ثم اختلفوا في وقوعه فأنكر أهل الظاهر وقوعه بل ادعوا حظر الشرع له " (51) .
ولكن بعض الشافعية أوجبوا التعبد به شرعاً ، وإن لم يوجبوه من وجهة عقلية (52) .
والذي عليه أئمة المذاهب السنية وغيرهم من أعلام السنة (53) ، هو الجواز العقلي ووقوع التعبد الشرعي به كما هو فحوى أدلتهم التي سنعرضها ، وإن كان في استدلال بعضهم ما يوجبه عقلاً لو تمت أدلته العقلية .
ومن هذا العرض الموجز ، تدركون مدى اختلاف العلماء في نسبة بعض الاراء الى أصحابها ; فالمقدسي يعتبر أهل الظاهر من محيلي القياس عقلاً ، بينما يعتبرهم الغزالي من مجوزيه عقلاً ومانعيه شرعاً .
وربما كان سرّ اختلاف النسبة ، هو وقوف كل منهما على ما نسب اليهم من أدلة يشعر بعضها بالاحالة العقلية وبعضها بالحظر الشرعي ، فاستند الى ما وقف عليه ، وهذه الادلة ـ مجتمعة ـ معروضة في كتاب ابن حزم ( ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل ) ومقدمة كتابه ( المحلّى ) .
والشيء الذي لم أجده من هذه النسب ـ في حدود تتبعي ـ هو نسبة الاحالة العقلية ـ بقول مطلق ـ الى الشيعة ، وربما وجدوه في بعض كتب الاصول الشيعية كرأي لصاحب الكتاب ، فاعتبروه رأي مذهب بأجمعه .
ومن الاخطاء التي تكررت على ألسنة كثير من الباحثين هو نسبة رأي الى مجموع الشيعة لمجرد عثورهم على ذهاب مجتهد من مجتهديهم اليه ، ناسين أن الشيعة قد فتحوا على أنفسهم أبواب الاجتهاد فأصبح كل مجتهد له رأيه الخاص ولا يتحمل الاخرون تبعته .
نعم ، ما كان من ضروريات مذهبهم فإن الجميع يؤمنون به .
والشيء الذي لا أشكّ فيه ، هو ان المنع عن العمل بقسم من أقسام القياس يعد من ضروريات مذهبهم لتواتر أخبار أهل البيت في الردع عن العمل به (54) ، لا ان العقل هو الذي يمنع التعبّد به ويحيله ، ولذلك احتاجوا الى بذل جهد في توجيه ترك العمل به مع افادته للظن على تقدير تمامية مقدمات دليل الانسداد المقتضية للعمل
بمطلق الظن ، وسيأتي انها غير تامة ; فلو كانوا يؤمنون بالاحالة العقلية في العمل به لما احتاجوا الى ذلك التوجيه (55).
وعلى أي فإن حجية القياس وعدمها تعود إلى ثلاثة أقوال رئيسة :
1 ـ قول بالاحالة العقلية .
2 ـ قول بالوجوب العقلي .
3 ـ قول بالامكان ، وهو ذو شقين إمكان مع القول بالوقوع ، والقول بعدمه ، فلا بد من التماس هذه الاقوال واستعراض أدلتها ، وبيان أوجه المفارقة فيها لو كانت .
والذين ذهبوا الى هذا القول لا تختص أدلتهم بالقياس ، بل تعم جميع الطرق والامارات الظنية لوحدة الملاك فيها .
وأهم ما يمكن ان يستدل لهم به ما سبق عرضه من الشبه حول جعل الاحكام الظاهرية من لزوم اجتماع المثلين أو النقيضين ، وقد سبق الجواب عليها في تقسيمات الحكم من هذا الكتاب (56) .
ولكن الامدي صور إشكالهم بصورة أخرى ، ودفعه على مبناه في التصويب ، يقول : " اذا اختلفت الاقيسة في نظر المجتهدين فإما أن يقال بأن كل مجتهد مصيب فيلزم منه ان يكون الشيء ونقيضه حقاً وهو محال ، وإما ان يقال بأن المصيب واحد وهو أيضاً محال فانه ليس تصويب أحد الظنين ، مع استوائهما دون الاخر أولى من العكس " (57) .
ثم دفع هذا الاشكال على مبناه في التصويب ، ورفع التناقض باختلاف الموضوع ، لان موضوع أحد الحكمين هو ظن أحد المجتهدين ، وموضوع الحكم الاخر هو ظن المجتهد الثاني ، ومع اختلاف الموضوع لا تناقض لاشتراطهم في امتناع اجتماع النقيضين وحدة الموضوع بالاضافة الى الوحدات الاخر (58) .
وهذا الجواب صحيح بناء على صحة القول بالتصويب ، وستأتي مناقشتنا لهذا المبنى في مبحث الاجتهاد والتقليد ، أما على مبنى المخطئة القائلين بأن الاحكام تابعة لواقعها التي قد يصيبها أحد القائسين وقد لا يصيبها ، كما اذا كانت العلة في واقعها غير ما انتهينا اليها فإن الاشكال يحتاج الى جواب .
وأظن أن الجواب يتضح مما انتهينا اليه من إنكار جعل الاحكام الظاهرية ، وأن المجعول فيها ليس هو إلا المعذرية أو المنجزية ، ولا علاقة لها بإصابة الواقع وعدمها ليسلم لهم هذا الترديد ، وعلى فرض جعل الاحكام الظاهرية فهي مجعولة في طول الاحكام الواقعية ، ولا تدافع بينهما كما سبق إيضاحه في هذا الكتاب (59) .
واذا استثنينا من أدلتهم هذا الدليل ، فإن أكثرها لا يستحق ان يعرض ويجاب عليه .
وأهم ما يمكن ان يستدل لهم به ما سبق عرضه من الشبه حول جعل الاحكام الظاهرية من لزوم اجتماع المثلين أو النقيضين ، وقد سبق الجواب عليها في تقسيمات الحكم من هذا الكتاب (56) .
ولكن الامدي صور إشكالهم بصورة أخرى ، ودفعه على مبناه في التصويب ، يقول : " اذا اختلفت الاقيسة في نظر المجتهدين فإما أن يقال بأن كل مجتهد مصيب فيلزم منه ان يكون الشيء ونقيضه حقاً وهو محال ، وإما ان يقال بأن المصيب واحد وهو أيضاً محال فانه ليس تصويب أحد الظنين ، مع استوائهما دون الاخر أولى من العكس " (57) .
ثم دفع هذا الاشكال على مبناه في التصويب ، ورفع التناقض باختلاف الموضوع ، لان موضوع أحد الحكمين هو ظن أحد المجتهدين ، وموضوع الحكم الاخر هو ظن المجتهد الثاني ، ومع اختلاف الموضوع لا تناقض لاشتراطهم في امتناع اجتماع النقيضين وحدة الموضوع بالاضافة الى الوحدات الاخر (58) .
وهذا الجواب صحيح بناء على صحة القول بالتصويب ، وستأتي مناقشتنا لهذا المبنى في مبحث الاجتهاد والتقليد ، أما على مبنى المخطئة القائلين بأن الاحكام تابعة لواقعها التي قد يصيبها أحد القائسين وقد لا يصيبها ، كما اذا كانت العلة في واقعها غير ما انتهينا اليها فإن الاشكال يحتاج الى جواب .
وأظن أن الجواب يتضح مما انتهينا اليه من إنكار جعل الاحكام الظاهرية ، وأن المجعول فيها ليس هو إلا المعذرية أو المنجزية ، ولا علاقة لها بإصابة الواقع وعدمها ليسلم لهم هذا الترديد ، وعلى فرض جعل الاحكام الظاهرية فهي مجعولة في طول الاحكام الواقعية ، ولا تدافع بينهما كما سبق إيضاحه في هذا الكتاب (59) .
واذا استثنينا من أدلتهم هذا الدليل ، فإن أكثرها لا يستحق ان يعرض ويجاب عليه .
أما الموجبون له عقلاً فأدلتهم ـ لو تمت ـ فهي لا تشخص القياس ولا تعينه ، وسيأتي عرضها عند الاستدلال على حجية القياس من طريق العقل ، وإنما تشمل جميع الظنون ، وربما كان مفادها أقرب الى مفاد أدلة انسداد باب العلم .
والذي يستحق ان يطال فيه الكلام ، هو القول الثالث لما له من أهمية تشريعية واسعة ، والتحقيق فيه ان يقال : إن القياس في حدود ما انتهينا اليه من تعريفه وأنه ( مساواة محل لاخر في علة حكمه ) لا يقتضي ان يكون موضعاً لحديث حول حجيته وصحة استنباط الحكم الفرعي الكلي منه ، لان العلة التي أخذت في لسان الدليل إن أريد بها العلة الواقعية التامة للحكم ، استحال تخلف معلولها عنها في الفرع لاستحالة تخلف المعلول عن العلة ، وإن أريد بها الوصف الظاهر المنضبط المناسب غير القاصر الذي أناط به الشارع حكمه وجعله أمارة عليه ، استحال تخلف الحكم في الفرع عنه أيضاً وإلا للزم الخلف لان معنى إناطته به وجوداً وعدماً عدم تخلفه عنه ; فإذا فرض إمكان التخلف ـ كما هو مفاد عدم الحجية ـ كان معناه عدم الاناطة ، وهو خلاف الفرض .
ولكن موضع الشبهة ومواقع التأمل إنما هو في استنباط الحكم من هذا الدليل لا في أصله ـ فيما نعتقد ـ وإن بدا التشكيك على ألسنة الكثير في ثبوت الحجية له نفسه ، والظاهر أن ذلك ناشئ إما من عدم تحديد مفهوم القياس ، أو من الخلط بين الدليل وعملية الاستنباط منه .
وعملية الاستنباط هذه موقوفة على تمامية مقدمتين :
أولاهما : معرفة العلة التي أناط بها الشارع حكمه في الاصل .
وثانيهما : معرفة توفرها في الفرع بكل شرائطها وقيودها ; وكلتا المقدمتين موقوفة على حجية الطرق والمسالك اليهما ، ومع إثبات الحجية لها وثبوت العلة بها فلا بد من استنباط حكم الفرع وإثباته بها .
ومسالك العلة التي سبق عرضها ، تنقسم الى قسمين : قطعية ، وغير قطعية ; وغير القطعية تنقسم الى قسمين : ما قام على اعتبارها دليل قطعي ، وما لم يقم .
وعلى هذا فالاقسام المتصورة ثلاثة :
1 ـ المسالك المقطوعة .
2 ـ المسالك غير المقطوعة ، ولكن قام عليها دليل قطعي .
3 ـ المسالك غير المقطوعة مع عدم قيام الدليل القطعي عليها .
ولكل منها حديث يقتضينا استيفاؤه بكل ما يتصل به نظراً لما يترتب عليه من ثمرات .
ولكن موضع الشبهة ومواقع التأمل إنما هو في استنباط الحكم من هذا الدليل لا في أصله ـ فيما نعتقد ـ وإن بدا التشكيك على ألسنة الكثير في ثبوت الحجية له نفسه ، والظاهر أن ذلك ناشئ إما من عدم تحديد مفهوم القياس ، أو من الخلط بين الدليل وعملية الاستنباط منه .
وعملية الاستنباط هذه موقوفة على تمامية مقدمتين :
أولاهما : معرفة العلة التي أناط بها الشارع حكمه في الاصل .
وثانيهما : معرفة توفرها في الفرع بكل شرائطها وقيودها ; وكلتا المقدمتين موقوفة على حجية الطرق والمسالك اليهما ، ومع إثبات الحجية لها وثبوت العلة بها فلا بد من استنباط حكم الفرع وإثباته بها .
ومسالك العلة التي سبق عرضها ، تنقسم الى قسمين : قطعية ، وغير قطعية ; وغير القطعية تنقسم الى قسمين : ما قام على اعتبارها دليل قطعي ، وما لم يقم .
وعلى هذا فالاقسام المتصورة ثلاثة :
1 ـ المسالك المقطوعة .
2 ـ المسالك غير المقطوعة ، ولكن قام عليها دليل قطعي .
3 ـ المسالك غير المقطوعة مع عدم قيام الدليل القطعي عليها .
ولكل منها حديث يقتضينا استيفاؤه بكل ما يتصل به نظراً لما يترتب عليه من ثمرات .
شركة تنظيف فلل بالرياض
ReplyDeleteشركة تنظيف فلل
تنظيف فلل بالرياض
نظافة فلل
شركة نظافة فلل بالرياض
نظافة فلل بالرياض
اسعار شركات تنظيف فلل بالرياض
تنظيف الفلل
ارقام شركة تنظيف فلل بالرياض
ارخص شركة تنظيف فلل بالرياض
ركن العربي